الجمعة، يوليو 22، 2011

هكذا كانت الأقدار .



ما أجمل القلم وما أروعه ، وما أوفاه من صديق صدوق ، عندما تجيش في صدركَ جيوش الزمن ، وتتراكم في ذاكرتك الأفكار ، وتلم بكَ الهموم ، وتراودك الكلمات المبعثرة ، والحروف المتناثرة في أرجائك ، وأعماقكَ ، ولا تجد من وسيلة للبوح بها والإفصاح عنها إلا أن تأوي إلى القلم وتهفو إلى لون حبره ، المنساب من جوفه كأنه الشهد ، لتعبر به عما يتردد في نفسك وتضيق به أنحاؤك .
فيستقبلك بصدر رحب ، وكأنه ولي حميم يفتح لك ذراعي الوفاء والإخاء ، والصدق والأمانة ، فتبوح له بكل ما يختلج في نفسك دون وجل ولا خوف من النقص والتحريف .

لم أكن أتوقع أنني سأكتب يوماً عن ذكرياتي ، ولم يخطر في بالي بأنه سيكون لي مدونة ألجأ إليها بقلمي ، وأسطر عليها ذكرياتي ، وأبث على سطورها همومي ، وأحزاني ، وأدون ذكرياتي وأفراحي ، وأفصح عن ملماتي وأتراحي ، وأنشر كل ذلك على الملأ ليقرأه كل من أراد ، ويقتبس عن حياتي الشيء اليسير ، وما أجمل أن يكون للإنسان زاوية خاصة به يلجأ إليها كلما وجد أنه يريد الخلوة مع نفسه والتحدث إليها بهمس وأبعاد من الماضي ، وعيناه تتحركان غرقاً في الذكريات ، واستعراضاً لشريط الأحداث الماضية ، وكأنه يقرأ الماضي سطوراً ماثلة أمامه أو مكتوبة على ورقة .

كنت قد كتبت في مقالتي السابقة عن جزء من كياني غاب عني عشرين سنة أو تزيد قليلاً ، عندما كانت صغيرة في عمر الزهور فتوالت اليام وتعاقبت السنون وتمادت في التفريق بيننا ، حتى غابت عني كل ملامحها وتلاشت صورتها من مخيلتي ، ودرست من ذاكرتي ، ولم تعد سوى وشم في نواشر معصم ، حتى أنني ظننت ألا لقاء ولا نصيب لي في رؤيتها مرة أخرى إلى أن يواري أحدنا التراب ، ولكن كان القدر يريد غير ذلك فلقيتها بعد زمن طويل فإذا بها قد تغيرت كثيراً إلا هدوءها المعهود ، وطيبة قلبها الطاهر ، وهذا من أصالتها وطيب معدنها . 

وها أنا الآن أكمل المائة موضوع في مدونتي هذه وأكتب عن أختي  الأخرى التي لا زالت حتى الآن غائبة عني منذو ما يقارب العشرين عاماً أيضاً ، حيث رحلت وهي في سن صغيرة ، تنعم في براءة الطفولة ، وكبرياء الصبا ، جميلة ورائعة ، تتسم بالهدوء واللطف ، ورحابة الصدر ونقاء الطوية ، وعذوبة المنطق وسلامة الروح ، ولا زالت غائبة عني حتى الآن ولم أستطع لقاءها ورؤيتها من جديد ، ويبدو أن السنين قد أزمعت على أن تطيل أمد الفراق ، وتشمر عن ساعد الجفاء ، وتزيد هوة الزمن بيننا ، لأعود إلى صفحات الماضي أقلبها ، لعلي أجد فيها بقايا من صورة وجهها الصغير الذي يشع ضياء ، ويبرق نقاء ، وتنبثق عنه بسمة الالبراءة ، والصفاء ، ويتلألأ بهجة وينبئ عن قلب رؤوم عطوف وحنون ، إلا أن تلك الملامح قد ذابت وجفت منها صفحات ذاكرتي ، وأعيت على ذكرياتي ، فلم أعد أر سوى صورة من خلف زجاج معتم مشوشة ، لتبدو كأنها شبح قابع خلف أستار الظلام وأنا أدور حوله عسى أن أجد منفذاً للوصول إليه لأتبين الصورة الحقيقية ، إلا أن ذلك لم يكن ، فأجد نفسي أحياناً كالمستيقظ من حلم جميل يمنى بالإحباط لمجرد أن يعلم أنه مجرد حلم عابر ، مر على ذاكرته في سكرة النوم كلمح بالبصر . 

مع كل هذا الشتات الذي أعيشه ، والأحزان التي تعتصر أعماقي ، وتطفو على وجهي وتبدو في ملامحي ، ويبرق ضوؤها المقيت من ناصيتي لا يخفى على ذي لب ، أتساءل من السبب ؟! 
ولماذا كتب علي هذا النمط من الحياة ، هل لأكون سعيداً في يوم ما ، أم أنه الشقاء إلى الأبد ؟! 
أم أن ذلك قدري لأعتزل الناس ، أو أقتصد في الجلوس معهم لأصاحب بدلاً منهم القلم والقرطاس ، وأبوح لهما بكل ما يعتصر داخلي من آلام ومعاناة ، وأحزان ، - ونعم الصديق االقلم . 

لا أحد يعرفني جيداً ، حتى المقربين مني ولا يعلمون ما هو الحديث الذي يدور في داخلي ، ويخترق ذكرياتي ليفرض علي الصمت والتأمل الطويل ، الذي أحبه كثيراً كثيراً ، فمن يراني ويجالسني لا يمكن إلا أن يفكر ويعتقد أنني أفعل ذلك تكبراً ، بينما هو لا يدري ما يدور في أعماقي ، ولا يعلم شيئاً عن الرحى التي تدق وتطحن كياني في أعماقي ، ويهد صوتها حيلي ، ويكاد يضعف عزمي وحيلتي ، ولا يرى اللهيب الي يضطرم في جونحي ، ويلتهب في أضلاعي ، وهو معذور في ذلك ، وليقل ما يقول ، فهذه سجية من سجايا حياتي ومن بعض أقداري أن أكون هكذا .

هكذا أراد الله أن أكون . 

شارك

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More