قالوا انسى ما مضى ولا تلتفت ، تلك أيام قد خلت ومحت كل ما كان ورسمت ، على جدار الزمن تاريخاً بحروف قد بهتت ، ولم تعد سوى دمنة قد درست ، وعفت على أطلالها ورسمت .
فقلت كيف أنسى ، وكيف لمثلي أن يذهب قدماً دون أن
يتوقف قليلاً ليستنشق من عبير الزمن الغابر جرعة
ليندفع بها بها نحو الآفاق ، حيث قد انكفأت الأيام ، وذاب
العمر وارتمى البصر ؟
ذلك الماضي السحيق ، دستور قد طبعته السنون ، ونقشته
ريشة الزمن ، على آطام السنين ، وآكام الحياة ، فهو وإن كنا
قد طوينا صفحاته ، وختمنا على دفتيه إلا أننا نعود في لحظة
تأمل نفتحه لنسترخي ، ونشتم عبير غباره من بين طياته ..
ثم نستلهم مستقبلنا من خلال نسائمه ، ونندفع في حاضرنا من
خلال خطراته .
نعم إنها تلك الأيام التي قد انتهت ، ولم يعد اسمها أيام أو حاضر
أو مستقبل ، بل قد تدثرت بدثار اسمه الماضي ، يزيد تمادياً وتباعداً كلما أشرقت شمس وأطلت بوجهها من خلف آفاق المشارق ، ترسم لنا يوماً وتسميه حاضراً ، فما تلبث أن تشيح عنا بوجهها وتتوارى في عتمة المغارب لتنبئنا بأن حاضرنا قد ولى وأمسى اسمه ماض عتيق وطوت به جيلاً من حياتنا ، وزادت صفحات الماضي مضياً .
ولكن كيف أنسى ذلك ؟! وإن كانت تلك الأيام قد أصابها إعصار فاحترقت أو سقطت وتهشمت ، أو تعثرت فناحت وولولت وتململت ؟!
إنها مخزن العمر ، وذاكرة العقل ، وملاذ الفكر ، يعود نعود إليها كلما شعرنا بأننا في حاجة للاسترخاء والراحة ، نستغرق في تأمل وتفكر ، وتجديف وإبحارفي يم السنين الخالية ، لنوقظ ما استغرق في سبات من عقلنا ، ونبعث ما توارى تحت ثرى النسيان من ذاكرتنا ، ونستلهم من ذلك السفر جادتنا الجديدة .
الماضي هو نتاج العمر وحصيلته ، نسعد بالبقاء في لحظات ذكراه ونأنس بكل دقائقه وثوانيه وإن كانت وهم وخيال ، نرى لحظات الشقاء فيها لحظات سعيدة وجميلة ونتمنى أن تعود رغم أنها كانت قاسية ، وناسى على لحظات السعادة التي قد عبرت ومضت ، ولكنها ترتسم على محيانا ابتسامة خفيفة لمجرد عبور تلك الصورة أمامنا في لحظة تأمل ، ما تلبث أن تختفي عندما يطرق الماضي على أبواب الذاكرة ليقول إن تلك سنين قد خلت ، فلا تعيش في وهم الماضي ، وتتجرع غصته .
عندما يقولون لي إنسى ما مضى ولا تلتفت ، تدب في جسمي حرارة الأسى ، وكأنما تحول دمي إلى حبيبات تتدحرج في أنحائي ، فأغمض عيني قهراً ، وأصم أذني هجراً كأنني لم أحترق بلظى العذل ، والتشفي ، لأجد أنني قد توغلت في أدغال الزمن الغابرة ، وفتحت صفحاته ، وقرأت بعضاً من سطوره في لحظة عابرة ، وأبى عقلي إلا أن يعود إليها لينطلق منها تارة أخرى .
0 التعليقات:
إرسال تعليق