كيف سأبدأ هذه الرسالة ؟ هل أبدأها بالآهات والأنات ؟
أم بزفير يكاد يحطم أضلعي ؟ أم بشهقة ثم آهة تتحدث عما بداخلي
دون الحاجة إلى الورقة والقلم ، وإن كان ذلك فليس هناك من يسمع أنيني ، ولا يرثى لحنيني ، سوى أعماقي ، ونبضات قلبي
والدم الذي يجري في عروقي ليوصل كل معاناتي إلى كلي ، إلى كل جزئية في جسدي ، وإلى كل حرف في ذكرياتي ، وإلى كل
زاوية في ذاكرتي .
لا أحد سيرحمني من جفاء الأيام ، وتباعدها عني يوماً تلو يوم ، ولا يعيد لي الذاكرة والذكريات ، ولا لحظات من السعادة عشتها ، ثم أصبحت ألماً بعد أمل ، وحنيناً بعد وصل . إنها الأيام تتسارع وكل شيء يبتعد ويتلاشى .
كيف لي أن أعود إلى ماضي الصغير ، إلى طفولتي ، إلى براءتي ، وطهري ، ونقائي ؟ وإلى أيامي الأولى ، لألتقط قلبي الطاهر النقي ، وأعيده إلى أضلعي ، وأعيش به من جديد كسابق عهدي ، كطفل صغير بريء لا يرى إلا شمس الأمل ، ولا يرتسم على محياه إلا بشاشة النقاء والبراءة ، والصبا . وأرمي قلبي الحالي المدجج بسلاح مقاومة الأيام ، والجور ، وصلف البعد ، ونار الأشواق ، وأتخلص مما فيه من آثار يديك ، وجور أعمالكِ ، وطغيان أحداثكِ ؟
أتوق إلى التخلص منكِ وأخلص إلى نفسي القديمة ، أناجيها أعانقها ، أتحسسها كما يتحسس الأعمي الأجسام ليميزها ، وألمسها كما تلمس الأم الحانية وليدها ورضيعها ، عندما تقلبه بين يديها كأنما تقلب قلبها ، كيف لي أن أتخلص منكِ وأعود إلى براءتي ، كيف لي أن أعود طفلاً ، من غير سوء ولا أرذل العمر .
أريد أن أستعيد قلبي لأتحكم فيه وأسيطر عليه ، وأجنبه مزالق الغرام وأصرفه عن طرق الهيام ، والهوى ، وأسيطر على إحساسي ومشاعري وأبنيها من جديد ، أريد إعادة قراءة اليام قراءة متأنية فاحصة ، وأتأمل الأحداث الجارية ، وأتعض بالماضية ، وأجعل منها دروساً مستفادة أرسم بها ملامح المستقبل المجهول .
أريد أن أتخلص من حرفكِ ، وإداري حسكِ وهمسكِ وأطهر روحي من روحكِ ، وحركِ وبردكِ ، وأزيل من أنفاسي رائحتكِ وعطركِ ، وأفكاري من ذكرياتكِ وذكركِ .
إنني أستسلم وارفع يدي منهزماً أمام جوركِ لأنني لست جائراً ولا أعرف الجور ، ولست ظالماً فكان ظلمكِ لي كبيراً وغير محتمل ، إنني أعلن الانتفاضة والتحرر من قيدكِ والخروج من سجنك ، ولكن هل أستطيع ذلك ؟
كيف لي أن أعود لماضي وأبني حياتي على علم ودراية ، وأسس ثابتة وأعيش حياة خالية من الأسماء والألقاب والأوصاف ، والتزلف والتذلل ، والانصياع والطاعة العمياء ، لقد أتلفت قيودكِ معصمي ، وسجنت فؤادي وحصرت كياني وبددت أفعالك وأحلامي ودمرت وعودكِ كياني وأهلك غيابكِ جسدي وقوتي وشتت فكري وأثقل جفاؤكِ ذاكرتي وكاهلي ، وغصت به ذاكرتي فاحتشدت أفكاري وانحسرت فيك وفي ذكركِ وإسمكِ ، وأفسد علي هجركِ صفوي ونثر كلماتي وقطع سطوري وجفف أقلامي .
أنا في حيرة من أمري ، كيف لي بالخلاص منكِ ، وإن رفعت راية الهزيمة والاستسلام بعدما اختلطت أنفاسي بأنفاسكِ ، وامتزجت روحي بروحك ودبت حرارة جسدكِ من خلال راحيتيك حتى سرت في أوصالي .
زرعتكِ بذرة في أعماقي ورويتكِ بماء زهرة حياتي وشبابي وأهديتكِ براءتي وحياتي وصفو أيامي ، ووجهت إليكِ فكري وأفكاري كأنني خلقت لأشقى بكِ وتتلف مهجتي على يديكِ .
والحديث عنكِ يطول وتتجدد فيك الكلمات وتفيض ينابيع المعاني .
0 التعليقات:
إرسال تعليق