الأحد، أكتوبر 31، 2010

حبٌ تحتَ المَطَرْ


تحت زخات البردِ ، ودوي الرعدِ ، وتلبد السماء بالغيوم ، ومغزِّرات المطر ، في عصرية ممطرة ، تهب علينا نسائم أمطار الصيف  الباردة التي تسبق هطول الغيث .. بين العصر والمغرب .. السماء تزداد عتمة ، وتختفي زرقتها تدريجياً في ركام السحب السوداء المحملة المبشرة بقدوم الرحمة وإقبال الغيث وتباشير المطر . 

وفي صدفة كانت خيراً من كل ميعاد وأنا أسير في ذلك الدرب المحفوف بالعشب والأزهار من جانبيه ، وقد تفتحت أزهاره ، وفاحت رائحتها الزكية في الأرجاء .. بخطى حثيثة كنتُ أسير لأن المطر قادم وقد بدأت قطراته المتفرقة هنا وهناك تهطل كأنها تحذير لمن خارج داره أن يعود حتى لا تصيبه وتبلله ، وللرعد دوي مخيف ، وسناه يكاد يخطف البصر ، وصوته يهز الأرجاء وكأنما ( زلزلت الأرض زلزالها ) بالطبع تلك طقوس موسمية تعودنا عليها نحن سكان الجبال ، وهي مواسم ننتظرها بشغف لأنها أصوات الخير وبشائر الرحمة من الله بعباده القادمة من السماء ، تهتز الأرض منها وتربو وتنبت ( من كل زوج بهيج ) وتنبت مع أعشابها وأزهارها الندية وأغصانها الطرية الذكريات ، ثم تدلف إلى شريط الذكرى وصحائف الأيام . 

وكأن تلك العوامل الآنية تدفعني سريعاً وتحثني على الإسراع بالخطى ، كأنها تريد أن تقول لي بما سيحدث في نهاية الطريق ، وعلى مفترق الطريق ، بين الوجهتين .. فما هي إلا لحظات حتى وقع ناظري عليها وهي كالبدر عندما يتخلل الغيوم في دجى الليل .. تسابق المطر وتتجاهل أصوات الرعود  التي تجوب ذلك الوادي الأخضر الجميل ،وكأنها معزوفة للمطر  وتزيد نضارتها كلما لاح لمع سنا  ، البرق فوقفت جانباً حائراً .. ووقفت هي .. 
وبدأ المطر يتساقط ويتسارع .. ونسينا ..
وصوت الرعد يدوي فتجاهلنا .. وتقاربنا 
والنسمة تهفهف بشعرها وتداعبه فتزيلها عن وجهها تارة وأخرى تعيدها وكأنها تغطي ورود الخجل .
وتداعب تلك الخصلات .. وبهتنا .. 
وهكذا بقينا برهة والمطر يهطل ويتكاثر .. والبرد من حولنا كأنه يتحاشى أن يقع علينا فيؤذينا .. 
فوجمنا .. وسكتنا .. وتأملنا .. وجمعنا الكلمات في خواطرنا .. 
ورتبنا العبارات بصمت وحديث خفي .. ونسجنا الكلمات عواطفاً وأحاسيس .. وألبسناها المشاعر . 
ونحن لا زلنا في صمتنا . 
وتركنا النظرات تتحدث بدلاً منا .. والنبضات تعزف أنغام حبنا بين أضلاعنا .. 
وتتسارع أضلاعنا بنبض قلوبنا وهي تشرح مشاعرنا وتتحدث عن أحاسيسنا .. ولا زلنا واقفين .. 
وقطرات المطر تتسارع وتزداد .. حتى بللتنا وكأنها تغسلنا وتطهر أجسادنا وأرواحنا .. كأنها غيثاً للحب لينبت في أرض أبداننا
وشعاب قلوبنا .. وبرى أرواحنا . 
وكل قطرة منها نقطة للذكرى .. حتى أصبحت ذكرياتنا تتجدد كلما هطل مطر وشنت سحائب الغيث على أي أرض .
وفي أي زمان ، وصارت ذكرى خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . 

كان لقاء تحدثت فيه قلوبنا .. وتناجت أرواحنا .. وتلاقت نظراتنا في قارعة طريقها . 
ثم اختلطت مشاعرنا .. وامتزجت أحاسيسنا .. كما امتزجت قطرات المطر بذرت الثرى . 
وبعد صمت .. وذهول .. نطقنا .. وتحركنا .. وبلسان واحد وحرف واحد وكلمة واحدة نطقنا ( أحبك ) . 
في آن واحد .. فكأنما هي جوقة موسيقية عزفت على ربى ذلك الوادي الجميل .. فجرت فيه كما جرى في سيل المطر .
كان كل واحد منا ينتظر أن يسمع تلك الكلمة من في الآخر .. ويتمناها بلهف وشوق .. 
ليضمد بها جراحاً ويسكن بها آلاماً تعتصر الكيان .. وتقض المضجع .. 
فصاحبت تلك الكلمة .. المطر .. والرعد .. والبرق .. ثم ارتبطت بها فصار للرعد والمطر والبرد والبرق ذكرى .
وعلاقة مع الحب . فأغاثت قلوبنا .. وقربت أرواحنا .. ومزجت أحاسيسنا وأيدت مشاعرنا . 

كان ذلك منذو وقت طويل .. عقود من الزمن .. تتالت .. ولا زالت معزوفة المطر تنبش الذكريات .. وتبعث الأحزان .
وتنكأ الجراح .. وتارة تكون نزهة المشتاق ومتنفساً لروح أهلكها العشق .. وأضناها البين .
فتجأر إليها وتتجول في حديقتها المتهادية بين أطلال الزمن . 
وصار المطر إلياذة الروح وناقوس الذكريات الخالدة التي أتلوها في محراب الحب .. 
وأقرأها على ركام السحب .. وأتخيلها بين ذرات الغيوم .. وأسمعها في وابل الغيث كلما جادت به السماء على أطراف الربى .

في ذلك المفترق انطلق الحب ، وأفصحت نفوسنا عما في دواخلنا وما كبتناه زمناً طويلاً .. 
وانطلقت مسيرة عشق وسيرة غرام .. وولد حب كبير عشناه فترة من الزمن لم نرها سوى لحظات .
عابرة .. وهناك انعقد العهد .. تحت المطر .. في مفترق الطريق .. بين زخات البرد .
ومع صوت الرعد .. وسنا البرق . . ولكن العهد لم يعد مسؤولاً .. فقد وقعت الخيانة .. ونقض العهد .. وخين الحب . 
ووقعت الخيانة .. وانطلقت رصاصتها إلى الصدر .. فأوقفت ذلك النبض .. وحطمت تلك الأضلاع ..
وبددت ذلك سكون .. واخترقت ذلك الصمت .. 
وأجدبت الأرض .. ونبتت الأشواك .. وتعرى الطريق من تلك الحشائش والأعشاب التي كانت تزين جانبيه . 
وأقفر الوادي .. وغابت خضرته .. ونزفت الجراح .. واشتد الألم .. وتعمق الحنين .
حتى انعكست على الجسد والروح ، والنفس .ز فشاخت النفس .. وأنهك الجسد .. وتمشى في جانبي الليل نهار . 
ومن يبصر مفرقي ( فأفزعه ليل تمشى في جانبيه نهارُ ) . 
وخانت العهد .. ثم قتلت ..


الخميس، أكتوبر 28، 2010

بحثاً عن الليلك والسديم


بين حروف كلماتها تجولتُ ، وتخللت سطورها الكريمة البهية ، وتأملت كل حرف من حروف تلك الكلمات ، ووضعت رحلي في تلك الجنبات والحما ، وأنخت مطية الذكرى بباب الذاكرة العتيق ، ثم يممت بوجهي نحو سمائها وأطلقت النظر إلى عنان فضائها ، فغار في أسباب السماء ليعتلي في رحاب الكون وهام السديم .

فهدأت النفس واستقر كيانها وسرى دفء الذكريات في أرجائها فوقع عليها بارداً لطيفاً كما تقع نسمة الليل على ميسم الزهر ، فارتاحت وسكنت ، ثم ابحرت تسير مع رياح هادئة قائدة ، تشق أمواج الذكريات القديمة ، الجميلة ، وهزها الشوق وتسارعت خطاها بحثاً عن الليلك ووهج السديم .

ثم تسارعت النبضات في أرجاء قلب ممزق ، ومتيم ، ونفس مفارقة حزينة ، وكلما اقتربت الخطا وتسارعت ولم تجد في تلك الأمواج بوادر البشرى تلوح في أفق الزمن وكبد الذكريات عن زهرة الليلك ووهج السديم فخطوة أمل تحدوها نحو الأفق وتدفع بها نحو أرض شاسعة ومفاوز متباعدة ، وأرض مترامية الأطراف من الآمال والتوجس ، والأحلام واليأس . وعثرة يأس تلقي بها في الحضيض . وكل خطوة تسعى لتكون هي الأقوى وصاحبة القول الفصل ، ثم تسارعت وتصارعت حتى كان القول الفصل هو صوت النذير.
ولم تعد إشعاعات الأمل تلوح وتتوهج في الأفق ، أو تضيء الطريق ، ولم تعد بصيص أمل في نهاية نفق عميق ، وبدأت أضواء الأمل تخبو وتأفل ، حتى كرهت من أفولها كل الآفلين .

حتى إذا رست النفس على يابسة الذكرى ، وشاطئ الأحلام المتحول إلى اليأس وذرات البؤس والأسى ، وجالت النظر حول ذلك الشاطئ السحيق الممتد مد البصر ، المنبعثة منه أبخرت السراب ، ولفحة القر والهجير ، فإذا به مزيج من الذكرى المعتمة المؤلمة ، تحولت من الأنس والفرح إلى أشباح وملامح الترح ، فأصبحت ذات وجه شاحب ، وجسد ناحل ، وكيان متهالك ، وبدت ساحات الأرض المنبسطة أرضاً جرداء زرعُها الآلام والأحزان والأسى ، وثمارها البعد والجفاء والهجر والبين .

تجولت في أرجاء تلك الديار فلم أعد أر فيها من ذلك الجمال الآسر الذي استقرت وهدأت به نفسي في يوم ما . ولم أعد أر فيها من الجمال سوى صورة رمزية تبدو عليها نقاء الطفولة وآيات البراءة ، ممزوجة بملامح الحزن والأسى والحيرة . كنت أتخليها ذات يوم في صورتها وأرسم خطوط جمالها وطيبتها وبراءة قلبها وجمال روحها .

فلما رأيت الأرض مقفرة ، والدار دامرة والجنبات موحشة ، إلا من بعض أناس لا يمثلون شيئاً بالنسبة لي عدت من حيث أتيت وقد ذبل الليلك وخبا وهج السديم .

السبت، أكتوبر 16، 2010

وقالت أوراق الزيزفون



في الألوان أراكِ .. 
في ألوان الطيف ، ووهج الأصيل ، عندما تميل الشمس إلى الغروب ، وأولي بوجهي نحوه ، إلى غروب
الشمس الممتلئ بلون الشمس الذهبي .
أراك في لون الأصيل الجميل ، حتى صار للغروب لدي ذكرى 
ولي معه موعد يومي ألقي إليه بنظري ، لأتأمله ، وأناجيه 
فتبدو لي صورتكِ في قطع السحب الذهبية المتناثرة على خط الأفق الغربي
وفي الشفق الأحمر ، ومع القمر إذ يسرِ . 
مع شاطئ البحر لي موعد عندما أقف عليه فأولي بوجهي ناحية الغروب 
أناجي أمواجه الهادئة ، وأنصت إلى نغمات موجاته العازفة على حصى 
شاطئه ، التي استلقى عليها ضوء الأصيل ، وانعكس عليها ، فبدا كأنه 
سجادة من ذهب بسطت على حلة زرقاء ، تتموج مع الماء الذي تحركه 
نسمة الهواء الطلق ، وكأنها تداعبه ، وتسامره . 

أحببت الغروب لأن فيه مستقر الأصيل ، وموعد ألوانك تتجلى فيه ، وأرسمكِ 
في مخيلتي في وهجه ، وتكسر أشعة الشمس عليه . 

في اللون الأحمر أراكِ ، وأجد عبيركِ يفوح كما يفوح عبير الوردة الحمراء عندما
يهبط الليل ويهب نسمته الباردة فتروي بطلها تلك الورود حتى تفوح معها رائحتها الزكية
وتسري مع ضوء القمر الهادئ وتشق هدوء الليل فتنبعث في النفس معزوفة الحنين 
وأصوات الشوق والسنين . 
تداعب الأغصان الندية ، والأزهار الزكية ، والتلال الخضراء ، وتسامر ضوء القمر الوقور .

في اللون الأبيض أراكِ ، وكلما فتحت صفحة بيضاء من صفحات مذكراتي ، المعدة للكتابة 
أراكِ على رأسها ، تتنقلين في أرجائها ، تسيرين أمام ريشة القلم ، كأنكِ دليل يستنير بكِ ، 
ويسير من خلفكِ ، فأحببت اللون الأبيض لأنه مساحة بيضاء تعكس صورتكِ في هدوء وسلام 
وفيه بريق ثناياكِ عندما تنبلج عنها شفتاكِ ويبرق من خلال عنابهما سنا ابتسامتكِ الوديعة ، 
الخجولة ، فتشعرني بما يحويه صدركِ من قلب قد هوى إليه فؤادي ، والتحم به . 

كلما دخلت هنا ، أراكِ خيالاً ، وحقيقة ، وأشعر بكِ هاجساً ، أراكِ عندما تتحركين معي 
وترمقيني بعينيكِ الجميلتين ، وتنظرين إلي من طرف خفي ، ولكنكِ تكتمين ذلك 
وتتهربين مني لأمر ما .. لا أدري ما هو .. ولكن لعلك مصيبة في ذلك ، ولعله من أسباب
إطالة عمر الحب وبقائه ، وإن لم يكن بيننا تبادل لكلمات الحب والغرام ، لأن ما في أعماقنا
*من حب يغني عن اللقاء والكلام ، فاصبح حبنا عذرياً بحق ، تتحدث مشاعرنا عنا . 
وتلتقي أرواحنا بدلاً من أجسادنا ، ونتحدث من بعيد ونتواصل عبر الأثير بلغة الأرواح 
وجمال الخيال ، وتصوير الذاكرة . 

أجدكِ في اللون الأسود ، في سواد الحبر ، تنعكس صورتك الجميلة ، ويتجلى ضياء وجهكِ 
في الصورة التي رسمته فيها ، ونمقته وزينته وطرزته ، وأضفت عليه كل ملامح الجمال 
الممكنة ليكون جمالاً لا مثيل له في الوجود وحتى لا تميل نفسي إلى غيركِ 
ولا تعشق النظر إلى غير وجهكِ حال اللقاء فتقتصر الروح عليك ، وتؤول النفس إلى معبدك

تخيلي اللون الأسود ، وتذكري الليل ، حالك الظلام ، فعتمته وسكونه ، وحذر المخلوقات 
وسكنها فيه ، وهدوء الكون ، وسكن المخلوقات ، عندما يبزغ القمر من مشرقه ، يتجلى شيئاً
فشيئاً ، فيطل بصفحته المشرقة الجميلة ، فيزيل عتمة الليل ، ويزل الوجل من النفوس 
ويبعث الطمأنينة في الأرواح ، والمخلوقات ، وكذلك أجدكِ وأتخيلكِ في اللون الأسود 

لون أسود ، وليل اسود ، وصفحة بيضاء ، وحبر أسود ، وقمر سار في عتمة الليل 
ووجهك كالبدر يزور السماء ، ويزينها بنوره ، ويؤنسها بهدوئه ، وكالكوكب الدري
المتوهج في طرف السماء البعيد . 

أنتِ هنا ، معي الآن تجوبين هذه الصفحات ، وتقرئين هذه الكلمات ، وترقبيني من هناك
لقد علمتُ ذلك ، وعرفته وآمنتُ به ومهما كانت أوراق الزيزفون رمادية فقد دلتني عليك ، 
وأخبراتني عنكِ ، لأن لها معي حديث ، ولي معها اتصال ، وزيارة وتأمل ، أستمع إليها 
فلم يكن حديثها إلا عنكِ ، وكلما رحلتُ بعيداً بخيالي وأبحرتُ في ذكرياتي ، تشدني همساتها 
وتجذبني كلماتها لتقول لي : لا تذهب بعيداً ، فأنت بجانب الروح الأخرى ، التي كنت تلتقي معها
بروحك ، وإنما انفصلت عنكَ روحها لأنها أرادت ذلك ، لتستبقي حبكَ وتبقى بجانبكَ آمنة مطمئنة 
حتى لا تفقدكَ ، فهي تضحي بنفسها دونكَ وتعذب قلبها لتبقى على اتصال معك دون أن تشعر .

هكذا قالت أوراق الزيزفون ، 
كلما غبتِ أحن إليكِ وأشتاق إلى لونكِ ، الأسود ، والأبيض ، والأحمر - لعل هذه الألوان 
هي ألوانكِ المحببة ، فقد صار لي اتصال روحي معكِ حتى اندمجت فيك ومعكِ فصرت 
أستشعر أدق تفاصيلكِ - وكلما باتعدتِ أنجذب إليكِ وأسعى خلفكِ رغماً عني لأنها روحي
تتبع روحكِ ، ونفسي تتوق للبقاء بقربكِ . 

أنتِ لازلتِ هنا ، بجواري ، فحديث قلبي لا يكذب ، وعقلي لم يخامره ما يعكره ويغالطه
الآن أدركتُ ذلك ، وآمنت به ، لأن روحي لازالت تلازم محرابكِ وتقف على فناء معبدكِ 
تحرسكِ ، وتتبعكِ وتسير من خلفك ، وكالخذروف تدور من حولكِ ، كالأجرام من حول زحل

هذا ما قالته أوراق الزيزفون . 

الأربعاء، أكتوبر 06، 2010

ومن الجنوب شرق



في الشرق لوحات فنية جميلة ، وآيات إلهية عظيمة ، تسبح الخالق المبدع ، سبحانه وتعالى . 
كم أحب الشرق وكم يهوي إليه فؤادي وتهفو إليه نفسي ، وكم هو جميل عندما تعانق الشمس آفاقه في ساعات الصباح الأولى ، وتزحف من خلف قمم جباله وتلاله ، وتتخلل سامقات أشجاره ، فيتكسر ضوؤها من خلال وريقات الشجر ، كالسيوف المصلتة تبرق في ساحة المعركة ، أو كقطع الفضة المتلألئة في وهج الشمس ، ولها لمعان أخاذ ، وتزحف بهدوء ولطف وهي تكتسي بحلة ذهبية جميلة ، وتطل عبر قمة الشرق كأنها تداعب الكون وتبتسم للناس مبشرة بيوم جديد حافل بالعمل والعطاء ، سامحة لهم بالتحرر من قيود الليل وسكرات النوم ، تبدو في غاية الجمال والروعة بتلك الألوان التي تصاحبها نسمة باردة تزحف من عمق الوادي نحو القمة مسايرة لضباب وديع يسير معها نحو التلال والهضاب ، فينفث رذاذه على الطبيعة فيطفئ بها حرارة الأرض ويبلل أغصان الشجر وتتربع قطراته على عروش الأزهار كالجمان  ثم يتحدر منها كأنها دموع أسالتها حرارة الأحزان وأنات الآلام . 
روعة المنظر في تلك اللوحة الفنية الرائعة ، عهندما تلقي بنظرك إلى قعر الشرق في لحظات صعود الشمس وإطلالتها على الكون فتلقي باشعتها في فسحات الشرق حيث تناثرت هناك قطع من السحب المتفرقة هنا وهناك ، فوقع الضياء عليها فاتشحت بلونها الأصفر فأصبحت كأنها قطعاً من الذهب نثرت على حلة زرقاء ، أو كأنها نمارق من الذهب مصفوفة أو زرابي مبثوثة ،  سبحان الخالق المبدع ، فأعطت للشرق بعداً أفقياً رائعاً جميلاً فاستقرت العين محدقة في تلك المناظر الخلابة ، واستنشقت النفس نسمة الصباح الأولى الباردة ، التي تسربت عبر الوادي تداعب الأغصان وتغسل الأزهار وتروي الأعشاب صاعدة نحو القمة وكأنها رسول يوم جميل أو هدية شرقية بعثتها آية النهار قبل أن تشتد في كبد السماء ، فوقعت على الجسد ببرودتها وعليلها وعبق الأزهار التي ارتحلت معها ، أو كأنها هدية وداع لليل حالم بدد حلكته نور القمر عندما أسدل ستاره على الكون فغفت في هدوئه المخلوقات ، واستيقظ العباد والعشاق كل على شاكلته وانبرى في شأنه ، فألقى بآخر محاسنه مع نسمة الصباح وأشعة الشمس في مطلعها . 

ليس بالشرق من الغرب ، الذي أتحدث عنه ، وليس بالشرق من الشمال ، ولا بالشرق من الشرق ، ولكنه الشرق من الجنوب ، ومن الجنوب شرق ، ومن شرق الجنوب شرق الشمال ، وقد لا أريد أن أشرح هذه العبارة أكثر من هذا حتى لا يقع القارئ في حيرة أو يتضجر من التداخل في التركيب وربما التعقيد ، أو تبدو له التعابير شيئاً من الهرطقة والسفسطة غير مفهومة وإلا فهناك شرق الجنوب ومن الجنوب شرق ومن شرق الجنوب شرق  ومن شرق شرق  ، وشمال شرق ، إنها مشارق متعددة وللشمس ثلاثمائة وستون شرقاً فسبحان رب المشارق والمغارب . 

قد تبدو هذه التركيبات غريبة ومعقدة نوعاً ما ولكن بقليل من التأمل سيتضح كل شيء بالنسبة لأي قارئ ولا ريب أن هناك قارئ ما سيدرك هذا المعنى لأول وهلة يقرأها . 
في تلك الربى بجبالها الشاهقة ، وطبيعتها الخلابة ، تهفو النفس ويهوي الفؤاد ، وهناك وفوق جبالها في عمق الفضاء وأفق الكون البعيد سكنت الروح واستقر بها البحث ، حيث وجدت نصفها الآخر مستقرة هناك فالتحمت بها وظلت بجوارها تناجيها وتهتف لها وبها ، والجسد في الغرب ، قابعاً ، تدفئه روح الحياة ، وبقية الأجل . 

كانت الصدف والأقدار التي انتزعت الروح وطارت بها نحو كواكب الشرق فاستقرت هناك بجانب كوكب الزهرة تدور من حوله كأنها نيزك تشده جاذبيتها فصار يدور حولها كالطائف حول معبده . 


شارك

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More