الخميس، نوفمبر 25، 2010

لعينيكِ ( أرجوحة القدر )


كالطائر المحلق في السماء كانت الروح ، تتنقل هنا وهناك ، تعلو تارة وتنخفض تارة أخرى ، تتوارى في الغيوم أحياناً ، وتتجلى في زرقة السماء لحظة .

تجوب فضاءات الفضاء ، ترفرف بجناحين من الفرح والسرور تبتعد تراة وتقترب أخرى ، كالطفلة الممتلئ بالحيوية والطفولة والبراءة ، عندما يلهو بين يدي أمه التي تتابعه عن كثب وترمقه بنظرها خفية كلما ابتعد ، تتبعه جوارحها كلما ابتعد وزادت دقات قلبها واعترتها ملامح الخوف والوجوم خيفة عليه ، فأفسد عليها جلستها على الرمال التي قد جعلها حبها له أنعم من الحرير وأدفأ من الصوف ، وهي مع ذلك راضية بذلك ، وتعود إليها نسائم الحياة وبريق الفرح عندما يقترب منها ويشتعل جوفها حناناً ، ويلتهب حظنها دفئاً وأماناً .

هكذا كانت الروح تتدرج في فضاءات كون الحب بجوار توأمها التي كانت تعانقها في السماء وتحتظنها بين طيات الغيوم ، وتسامرها على قمم السحاب ، عندما وجدتها في لحظة من الزمن كانت لحظات زمن لم تولد بعد ، ثم ولدت في ظروف لم تكن في الحسبان ، وكأنما القدر كان مكتوباً من قديم الأزل ، فلما ولدت تلك اللحظات لم تكن سوى لحظات عابرة ، لم يمهلها الزمن ولم يتح لها الماضي فرصة للحياة في الحاضر ولم يسمح لها بالتطلع إلى المستقبل .

ومع ذلك ظلت معلقة في بروج السماء متمسكة بروح التحمت بها في حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً ، تتبعها أينما سارت وتمرح في حضرتها كلما أقامت ، حتى تعلقت بها واندمجت فيها ، فصارتا روحين في جسد واحد ، حتى ذلك الجسد كان يتبع الروح كلما انطلقت وعرجت في السماء نحو جزئها الآخر الذي وجدته وكأنما هي على موعد معه .

وعاشت الروح بروحها تلتقي حتى عشقتها وجعلت من حبها محراباً تخلو فيه لمناجاتها وتخلد إليه كملما خطرت بها خاطرة ، وتأوي إليه لمناجاته في غسق الدجى ، وتنتظر إطلالتها مع إشراقة الصباح الأولى ، وترقب صورتها في حمرة سحق الأصيل .

وظنت أنها قد حوتها واحتوتها فأطلقت العنان لخواطر الحب وبلاغة القول وفصاحة الكلام ، وعذوبة المنطق ، لتقول في حبها وتصف المشاعر ، وتشرح الأحاسيس ، ففاض ينبوع الكلم وجرى على لسان القلم ، فانتظم على الأوراق أروع منطق وأبلغ كلم

أما الآن فقد تبددت الغيوم وانقشع الغمام ، وسارت السحابة ولكن ليست كسحابة عبد الملك وليس لتمطر فيعم نفعها رقعة البلاد الواسعة ، بل لتتهادى في الهجير ، وقساوة الصيف ، وهوى ذلك الطائربعدما أصبح حائراً ، والذي كان يرفرف بجناحيه في فضاءات عشقها ، وسماء حبها وانثنى جناحاه فهوى من علوه وعاد إلى القمم وسكن أعالي الحيود يتلفت يمنة ويسرة بحيرة وإعياء ، وحيداً في القيعان ، مسلوباً على العرصات مشتت الذهن منكسر الخاطر .

وانفصلت الروح وتوارت الأخرى ، في آفاق الكون واختفت في سراب اليأس وأصابت مقاتل الأمل ، وهاجرت مع أسراب الأحاسيس والمشاعر إلى بلاد الذكرى وغابات الضياع ، ثم انطوت في عالم النسيان وتركت بعدها روحاً وجسداً يعتليان قمم الحنين ويسلكان أودية الشوق وأنهار الأنين .

وأعلنت الانفصال وحكمت بالهجر ولاذت بالبعاد ، فغارت قدماي في صحراء الضياع .
تقول نسيتها ، بل وخنتها ، وتحرر الأحكام جزافاً ، دون أن تستشير قلبها عن مدى عدالة الحكم وسلامة الجزاء .
أناديها عبر الأثير ، أناجيها في ظلمة الليل ، أتخيلها كلما أغمضت عيني ، في صور متلاحقة تبدو كل منها أجمل من الأخرى ، كلما فتحت حاسوبي ، ودلفت إلى المرسال أتحدث مع نفسي عنها ، وأمنيها بلقياها والحديث معها مرة أخرى ، فأنتظرها لأشرح لها ، وأوأكد لها أنني أعشقها ، لم أنسها ، لم أهجرها ، لم أخنها ، ولكن دون جدوى .. تمادت في الغياب ، وأصرت على البعاد ، ونسجت من الهجر دثاراً ودثرتني به ، وأجرت من البين أنهاراً وأشعلتها ثم زجتني في خضمها .

ولا زلت أنتظر إطلالتها ، لأطفئ شوقي إليها بالحديث ، والشكوى من تباريح الهوى ولهيب الجمر واللظى ، وسأظل ..
ولكن هل ستعود ؟!
هذا ما سأنتظره .
فإن عادت فأبواب قلبي مشرعة ، أمامها ..
وكلمات حبي مسخرة للبوح لها ..
وقطرات حبر قلمي جارية بالشوق إليها .
لقد كان لجرحها هذياناً في أعماقي ..
ولصدها أرجوحة يتقاذفها القدر .

الجمعة، نوفمبر 12، 2010

الغدر


عشتُ الحب زمناً ..
وتقلبت في لهيب الشوق فيه .
ونعيم الوصل ..
وعذابات الانتظار ..
وجلستُ على صفيحه الحار بالحب ..
وصفحاته البيضاء بالوفاء ..
وتدرجتُ في طفولته أعواماً ..

ثم ..
انقلبتُ فيه على صفيحه الساخن ..
بالغدر .. بالخيانة .. بالنقض ..

وأيامه الحافلة بالبعاد ..
وسنينه المليئة بالهجر ..
ودهوره المتلوثة بالجفاء ..
والبين .. والصد ..

ثم ..
عشتُ عالماً آخر بعد الحب ..
ومن أثر الحب ..
حياة الألم ..
والذكرى ..
والحنين ..
والشوق ..
والذكريات التي تنهض كلما تجمعت السحب
وسار الضباب .. واحتدم الغيم ..

ولا زلت ..
أعيش الحرمان .. وأتجرع غصة الحب كؤوساً مريراً .
وأتدثر بغيوم الذكريات .. وأتقلب في آلام الخيانة ..

ليتني لم أحب .. ولم أعشق .. ولم أمنح قلبي لفاتنة ..
ليتني ما عرفت حروف الحب .. ليتني لم أهبَ مشاعري
لأنثى .. وأحاسيسي لحسناء ..
وليتني لم أقطع بوعدي لخائنة .

اندثر الحب .. ودرست أطلاله .. وسقطت دمنه ..
وتدحرج تاجه من فوق هامته .. وترنح جسده .. وخارت قواه .
ونعق البوم في أرجاء حديقته .. وعصفت الخيانة بأزهار جنته .
ويبس النجم من فوق تلاله .

الخميس، نوفمبر 04، 2010

المنحى


مات الحب .. وسقط عن عرش مملكته ، وتهادى كيانه ، وخوى على عروشه . 
ولم يبق منه سوى أنقاض تأوي إليها هوام الذكريات ، وكوابيس الوجع . 
وسكتت تلك الأنغام العذبة التي كانت تدوي بأصداء الكلمات ، وقلقلة الحروف .
وانحسر صداها وانقطع على ضفاف الذاكرة وقيعان الذكريات ، وتراجعت الكلمات وجف النبع
الذي كانت تفيض منه ، وانحسر النهر الذي كانت تجري معه ويجري بها ، وخبا صوت العشق 
والغرام في أعماق النفس كما تخبو الروح من جسد ميت ، توارت في أفق الحياة كما تتوارى النجوم 
في أفق السماء عندما يمحو وهجها نور الصباح . 

وأعيا اللسانَ النطقُ واحتار ولم يستطع أن يتلفظ بتلك النغمات الجميلة التي كانت تشع بالحياة ، وتتلألأ 
بالأمل ، وتوقف ذلك السيل الذي كان يتدفق بمعاني الحب وقطرات الهوى  . 

عندما استلت خنجر الغدر وجعلت منها مدية للقتل وزرعتها في الصدر فأحدثت فيه شقاً عميقاً ثم زجت
بكفها إلى أعماقه فانتزعت تلك المضغة التي طالما حوت من حبها وارتوت أرضها من هواها ، وتقلبت 
على جمر الحنين والشوق ، فقتلت الروح دون الجسد ، والأحاسيس دون العمر ، والمشاعر صبراً وتعزيراً 
قتلاً ذريعاً لا هوادة فيه ولا رحمة ، ثم تركت كل تلك الأرواح جثثاً هامدة داخل جسد حي ينتظر انقضاء الأجل 
المحتوم  من بارئ النفس ، وظلت تلك الجثث داخل الجسد ، فجعلت منه مقبرة لها ، ولم تجهز على النفس البشرية
لأن لها موعد محتوم ، لتحمل في داخلها قتلى وصرعى ، لكي تستريح من حمل جثامين في جميع أنحاء جسد خائر القوى

ثم انحسر كل شيء وعاد ليقبع في وهاد الذكريات ، وظل حبيساً خلف قضبان العقل ، مسلوب الإرادة والمنطق ..
تراجع عنه القلم ، ولم يعد هناك مجال للحديث والكتابة عن الحب لأنه قد قتل وخر شهيداً ، ولا يجوز الحديث عن الموتى
لأنهم قد أفضوا إلى حياة أخرى .. ولكن لازال البدن مقبرة تحتظن أشلاءهم ولازالت الجراح تثعب بالدماء وتتضور 
من ألم الجراح . 

لقد أصبحت ممكلة الحب أنقاضاً وعمارها خراباً وحقيقتها سراباً وهوى عرشها كما هوت إيوانات كسرى عندما أضاءت 
لأنوار النبوة بصرى من أرض الشام . 


سأعتزل الكتابة والحديث عن الحب لأنه قد قتل في داخلي ، وسجن جثمانه بين أضلعي ، وكفن جسده بالأديم من جسدي 
فاستعصت الكلمات علي وخبت وضاعت واندثرت حروفه تحت أنقاض مملكته .. 
وسوف أنحو في الكتابة منحى آخر لعلي أجد فيها متنفساً ، وفوهات أنفث منها ما في جوفي من آهات ، وأخفف عنها
لفح الحريق ولهب الحرمان ، وظلمات الظلم ، وقساوة الجور . 

نعم لقد مات الحب .. ولكن الكلمات لم تمت ، وإنما انحسرت في أعماقي وانعقد عنها لساني .

الأحد، أكتوبر 31، 2010

حبٌ تحتَ المَطَرْ


تحت زخات البردِ ، ودوي الرعدِ ، وتلبد السماء بالغيوم ، ومغزِّرات المطر ، في عصرية ممطرة ، تهب علينا نسائم أمطار الصيف  الباردة التي تسبق هطول الغيث .. بين العصر والمغرب .. السماء تزداد عتمة ، وتختفي زرقتها تدريجياً في ركام السحب السوداء المحملة المبشرة بقدوم الرحمة وإقبال الغيث وتباشير المطر . 

وفي صدفة كانت خيراً من كل ميعاد وأنا أسير في ذلك الدرب المحفوف بالعشب والأزهار من جانبيه ، وقد تفتحت أزهاره ، وفاحت رائحتها الزكية في الأرجاء .. بخطى حثيثة كنتُ أسير لأن المطر قادم وقد بدأت قطراته المتفرقة هنا وهناك تهطل كأنها تحذير لمن خارج داره أن يعود حتى لا تصيبه وتبلله ، وللرعد دوي مخيف ، وسناه يكاد يخطف البصر ، وصوته يهز الأرجاء وكأنما ( زلزلت الأرض زلزالها ) بالطبع تلك طقوس موسمية تعودنا عليها نحن سكان الجبال ، وهي مواسم ننتظرها بشغف لأنها أصوات الخير وبشائر الرحمة من الله بعباده القادمة من السماء ، تهتز الأرض منها وتربو وتنبت ( من كل زوج بهيج ) وتنبت مع أعشابها وأزهارها الندية وأغصانها الطرية الذكريات ، ثم تدلف إلى شريط الذكرى وصحائف الأيام . 

وكأن تلك العوامل الآنية تدفعني سريعاً وتحثني على الإسراع بالخطى ، كأنها تريد أن تقول لي بما سيحدث في نهاية الطريق ، وعلى مفترق الطريق ، بين الوجهتين .. فما هي إلا لحظات حتى وقع ناظري عليها وهي كالبدر عندما يتخلل الغيوم في دجى الليل .. تسابق المطر وتتجاهل أصوات الرعود  التي تجوب ذلك الوادي الأخضر الجميل ،وكأنها معزوفة للمطر  وتزيد نضارتها كلما لاح لمع سنا  ، البرق فوقفت جانباً حائراً .. ووقفت هي .. 
وبدأ المطر يتساقط ويتسارع .. ونسينا ..
وصوت الرعد يدوي فتجاهلنا .. وتقاربنا 
والنسمة تهفهف بشعرها وتداعبه فتزيلها عن وجهها تارة وأخرى تعيدها وكأنها تغطي ورود الخجل .
وتداعب تلك الخصلات .. وبهتنا .. 
وهكذا بقينا برهة والمطر يهطل ويتكاثر .. والبرد من حولنا كأنه يتحاشى أن يقع علينا فيؤذينا .. 
فوجمنا .. وسكتنا .. وتأملنا .. وجمعنا الكلمات في خواطرنا .. 
ورتبنا العبارات بصمت وحديث خفي .. ونسجنا الكلمات عواطفاً وأحاسيس .. وألبسناها المشاعر . 
ونحن لا زلنا في صمتنا . 
وتركنا النظرات تتحدث بدلاً منا .. والنبضات تعزف أنغام حبنا بين أضلاعنا .. 
وتتسارع أضلاعنا بنبض قلوبنا وهي تشرح مشاعرنا وتتحدث عن أحاسيسنا .. ولا زلنا واقفين .. 
وقطرات المطر تتسارع وتزداد .. حتى بللتنا وكأنها تغسلنا وتطهر أجسادنا وأرواحنا .. كأنها غيثاً للحب لينبت في أرض أبداننا
وشعاب قلوبنا .. وبرى أرواحنا . 
وكل قطرة منها نقطة للذكرى .. حتى أصبحت ذكرياتنا تتجدد كلما هطل مطر وشنت سحائب الغيث على أي أرض .
وفي أي زمان ، وصارت ذكرى خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . 

كان لقاء تحدثت فيه قلوبنا .. وتناجت أرواحنا .. وتلاقت نظراتنا في قارعة طريقها . 
ثم اختلطت مشاعرنا .. وامتزجت أحاسيسنا .. كما امتزجت قطرات المطر بذرت الثرى . 
وبعد صمت .. وذهول .. نطقنا .. وتحركنا .. وبلسان واحد وحرف واحد وكلمة واحدة نطقنا ( أحبك ) . 
في آن واحد .. فكأنما هي جوقة موسيقية عزفت على ربى ذلك الوادي الجميل .. فجرت فيه كما جرى في سيل المطر .
كان كل واحد منا ينتظر أن يسمع تلك الكلمة من في الآخر .. ويتمناها بلهف وشوق .. 
ليضمد بها جراحاً ويسكن بها آلاماً تعتصر الكيان .. وتقض المضجع .. 
فصاحبت تلك الكلمة .. المطر .. والرعد .. والبرق .. ثم ارتبطت بها فصار للرعد والمطر والبرد والبرق ذكرى .
وعلاقة مع الحب . فأغاثت قلوبنا .. وقربت أرواحنا .. ومزجت أحاسيسنا وأيدت مشاعرنا . 

كان ذلك منذو وقت طويل .. عقود من الزمن .. تتالت .. ولا زالت معزوفة المطر تنبش الذكريات .. وتبعث الأحزان .
وتنكأ الجراح .. وتارة تكون نزهة المشتاق ومتنفساً لروح أهلكها العشق .. وأضناها البين .
فتجأر إليها وتتجول في حديقتها المتهادية بين أطلال الزمن . 
وصار المطر إلياذة الروح وناقوس الذكريات الخالدة التي أتلوها في محراب الحب .. 
وأقرأها على ركام السحب .. وأتخيلها بين ذرات الغيوم .. وأسمعها في وابل الغيث كلما جادت به السماء على أطراف الربى .

في ذلك المفترق انطلق الحب ، وأفصحت نفوسنا عما في دواخلنا وما كبتناه زمناً طويلاً .. 
وانطلقت مسيرة عشق وسيرة غرام .. وولد حب كبير عشناه فترة من الزمن لم نرها سوى لحظات .
عابرة .. وهناك انعقد العهد .. تحت المطر .. في مفترق الطريق .. بين زخات البرد .
ومع صوت الرعد .. وسنا البرق . . ولكن العهد لم يعد مسؤولاً .. فقد وقعت الخيانة .. ونقض العهد .. وخين الحب . 
ووقعت الخيانة .. وانطلقت رصاصتها إلى الصدر .. فأوقفت ذلك النبض .. وحطمت تلك الأضلاع ..
وبددت ذلك سكون .. واخترقت ذلك الصمت .. 
وأجدبت الأرض .. ونبتت الأشواك .. وتعرى الطريق من تلك الحشائش والأعشاب التي كانت تزين جانبيه . 
وأقفر الوادي .. وغابت خضرته .. ونزفت الجراح .. واشتد الألم .. وتعمق الحنين .
حتى انعكست على الجسد والروح ، والنفس .ز فشاخت النفس .. وأنهك الجسد .. وتمشى في جانبي الليل نهار . 
ومن يبصر مفرقي ( فأفزعه ليل تمشى في جانبيه نهارُ ) . 
وخانت العهد .. ثم قتلت ..


الخميس، أكتوبر 28، 2010

بحثاً عن الليلك والسديم


بين حروف كلماتها تجولتُ ، وتخللت سطورها الكريمة البهية ، وتأملت كل حرف من حروف تلك الكلمات ، ووضعت رحلي في تلك الجنبات والحما ، وأنخت مطية الذكرى بباب الذاكرة العتيق ، ثم يممت بوجهي نحو سمائها وأطلقت النظر إلى عنان فضائها ، فغار في أسباب السماء ليعتلي في رحاب الكون وهام السديم .

فهدأت النفس واستقر كيانها وسرى دفء الذكريات في أرجائها فوقع عليها بارداً لطيفاً كما تقع نسمة الليل على ميسم الزهر ، فارتاحت وسكنت ، ثم ابحرت تسير مع رياح هادئة قائدة ، تشق أمواج الذكريات القديمة ، الجميلة ، وهزها الشوق وتسارعت خطاها بحثاً عن الليلك ووهج السديم .

ثم تسارعت النبضات في أرجاء قلب ممزق ، ومتيم ، ونفس مفارقة حزينة ، وكلما اقتربت الخطا وتسارعت ولم تجد في تلك الأمواج بوادر البشرى تلوح في أفق الزمن وكبد الذكريات عن زهرة الليلك ووهج السديم فخطوة أمل تحدوها نحو الأفق وتدفع بها نحو أرض شاسعة ومفاوز متباعدة ، وأرض مترامية الأطراف من الآمال والتوجس ، والأحلام واليأس . وعثرة يأس تلقي بها في الحضيض . وكل خطوة تسعى لتكون هي الأقوى وصاحبة القول الفصل ، ثم تسارعت وتصارعت حتى كان القول الفصل هو صوت النذير.
ولم تعد إشعاعات الأمل تلوح وتتوهج في الأفق ، أو تضيء الطريق ، ولم تعد بصيص أمل في نهاية نفق عميق ، وبدأت أضواء الأمل تخبو وتأفل ، حتى كرهت من أفولها كل الآفلين .

حتى إذا رست النفس على يابسة الذكرى ، وشاطئ الأحلام المتحول إلى اليأس وذرات البؤس والأسى ، وجالت النظر حول ذلك الشاطئ السحيق الممتد مد البصر ، المنبعثة منه أبخرت السراب ، ولفحة القر والهجير ، فإذا به مزيج من الذكرى المعتمة المؤلمة ، تحولت من الأنس والفرح إلى أشباح وملامح الترح ، فأصبحت ذات وجه شاحب ، وجسد ناحل ، وكيان متهالك ، وبدت ساحات الأرض المنبسطة أرضاً جرداء زرعُها الآلام والأحزان والأسى ، وثمارها البعد والجفاء والهجر والبين .

تجولت في أرجاء تلك الديار فلم أعد أر فيها من ذلك الجمال الآسر الذي استقرت وهدأت به نفسي في يوم ما . ولم أعد أر فيها من الجمال سوى صورة رمزية تبدو عليها نقاء الطفولة وآيات البراءة ، ممزوجة بملامح الحزن والأسى والحيرة . كنت أتخليها ذات يوم في صورتها وأرسم خطوط جمالها وطيبتها وبراءة قلبها وجمال روحها .

فلما رأيت الأرض مقفرة ، والدار دامرة والجنبات موحشة ، إلا من بعض أناس لا يمثلون شيئاً بالنسبة لي عدت من حيث أتيت وقد ذبل الليلك وخبا وهج السديم .

السبت، أكتوبر 16، 2010

وقالت أوراق الزيزفون



في الألوان أراكِ .. 
في ألوان الطيف ، ووهج الأصيل ، عندما تميل الشمس إلى الغروب ، وأولي بوجهي نحوه ، إلى غروب
الشمس الممتلئ بلون الشمس الذهبي .
أراك في لون الأصيل الجميل ، حتى صار للغروب لدي ذكرى 
ولي معه موعد يومي ألقي إليه بنظري ، لأتأمله ، وأناجيه 
فتبدو لي صورتكِ في قطع السحب الذهبية المتناثرة على خط الأفق الغربي
وفي الشفق الأحمر ، ومع القمر إذ يسرِ . 
مع شاطئ البحر لي موعد عندما أقف عليه فأولي بوجهي ناحية الغروب 
أناجي أمواجه الهادئة ، وأنصت إلى نغمات موجاته العازفة على حصى 
شاطئه ، التي استلقى عليها ضوء الأصيل ، وانعكس عليها ، فبدا كأنه 
سجادة من ذهب بسطت على حلة زرقاء ، تتموج مع الماء الذي تحركه 
نسمة الهواء الطلق ، وكأنها تداعبه ، وتسامره . 

أحببت الغروب لأن فيه مستقر الأصيل ، وموعد ألوانك تتجلى فيه ، وأرسمكِ 
في مخيلتي في وهجه ، وتكسر أشعة الشمس عليه . 

في اللون الأحمر أراكِ ، وأجد عبيركِ يفوح كما يفوح عبير الوردة الحمراء عندما
يهبط الليل ويهب نسمته الباردة فتروي بطلها تلك الورود حتى تفوح معها رائحتها الزكية
وتسري مع ضوء القمر الهادئ وتشق هدوء الليل فتنبعث في النفس معزوفة الحنين 
وأصوات الشوق والسنين . 
تداعب الأغصان الندية ، والأزهار الزكية ، والتلال الخضراء ، وتسامر ضوء القمر الوقور .

في اللون الأبيض أراكِ ، وكلما فتحت صفحة بيضاء من صفحات مذكراتي ، المعدة للكتابة 
أراكِ على رأسها ، تتنقلين في أرجائها ، تسيرين أمام ريشة القلم ، كأنكِ دليل يستنير بكِ ، 
ويسير من خلفكِ ، فأحببت اللون الأبيض لأنه مساحة بيضاء تعكس صورتكِ في هدوء وسلام 
وفيه بريق ثناياكِ عندما تنبلج عنها شفتاكِ ويبرق من خلال عنابهما سنا ابتسامتكِ الوديعة ، 
الخجولة ، فتشعرني بما يحويه صدركِ من قلب قد هوى إليه فؤادي ، والتحم به . 

كلما دخلت هنا ، أراكِ خيالاً ، وحقيقة ، وأشعر بكِ هاجساً ، أراكِ عندما تتحركين معي 
وترمقيني بعينيكِ الجميلتين ، وتنظرين إلي من طرف خفي ، ولكنكِ تكتمين ذلك 
وتتهربين مني لأمر ما .. لا أدري ما هو .. ولكن لعلك مصيبة في ذلك ، ولعله من أسباب
إطالة عمر الحب وبقائه ، وإن لم يكن بيننا تبادل لكلمات الحب والغرام ، لأن ما في أعماقنا
*من حب يغني عن اللقاء والكلام ، فاصبح حبنا عذرياً بحق ، تتحدث مشاعرنا عنا . 
وتلتقي أرواحنا بدلاً من أجسادنا ، ونتحدث من بعيد ونتواصل عبر الأثير بلغة الأرواح 
وجمال الخيال ، وتصوير الذاكرة . 

أجدكِ في اللون الأسود ، في سواد الحبر ، تنعكس صورتك الجميلة ، ويتجلى ضياء وجهكِ 
في الصورة التي رسمته فيها ، ونمقته وزينته وطرزته ، وأضفت عليه كل ملامح الجمال 
الممكنة ليكون جمالاً لا مثيل له في الوجود وحتى لا تميل نفسي إلى غيركِ 
ولا تعشق النظر إلى غير وجهكِ حال اللقاء فتقتصر الروح عليك ، وتؤول النفس إلى معبدك

تخيلي اللون الأسود ، وتذكري الليل ، حالك الظلام ، فعتمته وسكونه ، وحذر المخلوقات 
وسكنها فيه ، وهدوء الكون ، وسكن المخلوقات ، عندما يبزغ القمر من مشرقه ، يتجلى شيئاً
فشيئاً ، فيطل بصفحته المشرقة الجميلة ، فيزيل عتمة الليل ، ويزل الوجل من النفوس 
ويبعث الطمأنينة في الأرواح ، والمخلوقات ، وكذلك أجدكِ وأتخيلكِ في اللون الأسود 

لون أسود ، وليل اسود ، وصفحة بيضاء ، وحبر أسود ، وقمر سار في عتمة الليل 
ووجهك كالبدر يزور السماء ، ويزينها بنوره ، ويؤنسها بهدوئه ، وكالكوكب الدري
المتوهج في طرف السماء البعيد . 

أنتِ هنا ، معي الآن تجوبين هذه الصفحات ، وتقرئين هذه الكلمات ، وترقبيني من هناك
لقد علمتُ ذلك ، وعرفته وآمنتُ به ومهما كانت أوراق الزيزفون رمادية فقد دلتني عليك ، 
وأخبراتني عنكِ ، لأن لها معي حديث ، ولي معها اتصال ، وزيارة وتأمل ، أستمع إليها 
فلم يكن حديثها إلا عنكِ ، وكلما رحلتُ بعيداً بخيالي وأبحرتُ في ذكرياتي ، تشدني همساتها 
وتجذبني كلماتها لتقول لي : لا تذهب بعيداً ، فأنت بجانب الروح الأخرى ، التي كنت تلتقي معها
بروحك ، وإنما انفصلت عنكَ روحها لأنها أرادت ذلك ، لتستبقي حبكَ وتبقى بجانبكَ آمنة مطمئنة 
حتى لا تفقدكَ ، فهي تضحي بنفسها دونكَ وتعذب قلبها لتبقى على اتصال معك دون أن تشعر .

هكذا قالت أوراق الزيزفون ، 
كلما غبتِ أحن إليكِ وأشتاق إلى لونكِ ، الأسود ، والأبيض ، والأحمر - لعل هذه الألوان 
هي ألوانكِ المحببة ، فقد صار لي اتصال روحي معكِ حتى اندمجت فيك ومعكِ فصرت 
أستشعر أدق تفاصيلكِ - وكلما باتعدتِ أنجذب إليكِ وأسعى خلفكِ رغماً عني لأنها روحي
تتبع روحكِ ، ونفسي تتوق للبقاء بقربكِ . 

أنتِ لازلتِ هنا ، بجواري ، فحديث قلبي لا يكذب ، وعقلي لم يخامره ما يعكره ويغالطه
الآن أدركتُ ذلك ، وآمنت به ، لأن روحي لازالت تلازم محرابكِ وتقف على فناء معبدكِ 
تحرسكِ ، وتتبعكِ وتسير من خلفك ، وكالخذروف تدور من حولكِ ، كالأجرام من حول زحل

هذا ما قالته أوراق الزيزفون . 

الأربعاء، أكتوبر 06، 2010

ومن الجنوب شرق



في الشرق لوحات فنية جميلة ، وآيات إلهية عظيمة ، تسبح الخالق المبدع ، سبحانه وتعالى . 
كم أحب الشرق وكم يهوي إليه فؤادي وتهفو إليه نفسي ، وكم هو جميل عندما تعانق الشمس آفاقه في ساعات الصباح الأولى ، وتزحف من خلف قمم جباله وتلاله ، وتتخلل سامقات أشجاره ، فيتكسر ضوؤها من خلال وريقات الشجر ، كالسيوف المصلتة تبرق في ساحة المعركة ، أو كقطع الفضة المتلألئة في وهج الشمس ، ولها لمعان أخاذ ، وتزحف بهدوء ولطف وهي تكتسي بحلة ذهبية جميلة ، وتطل عبر قمة الشرق كأنها تداعب الكون وتبتسم للناس مبشرة بيوم جديد حافل بالعمل والعطاء ، سامحة لهم بالتحرر من قيود الليل وسكرات النوم ، تبدو في غاية الجمال والروعة بتلك الألوان التي تصاحبها نسمة باردة تزحف من عمق الوادي نحو القمة مسايرة لضباب وديع يسير معها نحو التلال والهضاب ، فينفث رذاذه على الطبيعة فيطفئ بها حرارة الأرض ويبلل أغصان الشجر وتتربع قطراته على عروش الأزهار كالجمان  ثم يتحدر منها كأنها دموع أسالتها حرارة الأحزان وأنات الآلام . 
روعة المنظر في تلك اللوحة الفنية الرائعة ، عهندما تلقي بنظرك إلى قعر الشرق في لحظات صعود الشمس وإطلالتها على الكون فتلقي باشعتها في فسحات الشرق حيث تناثرت هناك قطع من السحب المتفرقة هنا وهناك ، فوقع الضياء عليها فاتشحت بلونها الأصفر فأصبحت كأنها قطعاً من الذهب نثرت على حلة زرقاء ، أو كأنها نمارق من الذهب مصفوفة أو زرابي مبثوثة ،  سبحان الخالق المبدع ، فأعطت للشرق بعداً أفقياً رائعاً جميلاً فاستقرت العين محدقة في تلك المناظر الخلابة ، واستنشقت النفس نسمة الصباح الأولى الباردة ، التي تسربت عبر الوادي تداعب الأغصان وتغسل الأزهار وتروي الأعشاب صاعدة نحو القمة وكأنها رسول يوم جميل أو هدية شرقية بعثتها آية النهار قبل أن تشتد في كبد السماء ، فوقعت على الجسد ببرودتها وعليلها وعبق الأزهار التي ارتحلت معها ، أو كأنها هدية وداع لليل حالم بدد حلكته نور القمر عندما أسدل ستاره على الكون فغفت في هدوئه المخلوقات ، واستيقظ العباد والعشاق كل على شاكلته وانبرى في شأنه ، فألقى بآخر محاسنه مع نسمة الصباح وأشعة الشمس في مطلعها . 

ليس بالشرق من الغرب ، الذي أتحدث عنه ، وليس بالشرق من الشمال ، ولا بالشرق من الشرق ، ولكنه الشرق من الجنوب ، ومن الجنوب شرق ، ومن شرق الجنوب شرق الشمال ، وقد لا أريد أن أشرح هذه العبارة أكثر من هذا حتى لا يقع القارئ في حيرة أو يتضجر من التداخل في التركيب وربما التعقيد ، أو تبدو له التعابير شيئاً من الهرطقة والسفسطة غير مفهومة وإلا فهناك شرق الجنوب ومن الجنوب شرق ومن شرق الجنوب شرق  ومن شرق شرق  ، وشمال شرق ، إنها مشارق متعددة وللشمس ثلاثمائة وستون شرقاً فسبحان رب المشارق والمغارب . 

قد تبدو هذه التركيبات غريبة ومعقدة نوعاً ما ولكن بقليل من التأمل سيتضح كل شيء بالنسبة لأي قارئ ولا ريب أن هناك قارئ ما سيدرك هذا المعنى لأول وهلة يقرأها . 
في تلك الربى بجبالها الشاهقة ، وطبيعتها الخلابة ، تهفو النفس ويهوي الفؤاد ، وهناك وفوق جبالها في عمق الفضاء وأفق الكون البعيد سكنت الروح واستقر بها البحث ، حيث وجدت نصفها الآخر مستقرة هناك فالتحمت بها وظلت بجوارها تناجيها وتهتف لها وبها ، والجسد في الغرب ، قابعاً ، تدفئه روح الحياة ، وبقية الأجل . 

كانت الصدف والأقدار التي انتزعت الروح وطارت بها نحو كواكب الشرق فاستقرت هناك بجانب كوكب الزهرة تدور من حوله كأنها نيزك تشده جاذبيتها فصار يدور حولها كالطائف حول معبده . 


شارك

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More